سورة النساء - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


ولما مضى ذلك على هذا الوجه الجليل عرف أنه كله في الحرائر لأنه الوجه الأحكم في النكاح، وأتبعه تعليم الحكمة في نكاح الإماء؛ فقال عاطفاً على ما تقديره: هذا حكم من استطاع نكاح حرة: {ومن لم يستطع منكم} أي أيها المؤمنون {طولاً} أي سعة وزيادة عبر فيما قبله بالمال تهويناً لبذله بأنه ميال، لا ثبات له، وهنا بالطول الذي معناه: التي قل من يجدها {أن} أي لأن {ينكح المحصنات} أي الحرائر، فإن الحرة مظنة العفة الجاعلة لها فيما هو كالحصن على مريد الفساد، لأن العرب كانوا يصونونهنَّ وهنَّ أنفسهن عن أن يكن كالإماء {المؤمنات} بسبب كثرة المؤنة وغلاء المهر {فمن} أي فلينكح إن أراد من {ما ملكت أيمانكم} أي مما ملك غيركم من المؤمنين {من فتياتكم} أي إمائكم، وأطلقت الفتوة- وهي الشباب- على الرقيق لأنه يفعل ما يفعل الشاب لتكليف السيد له إلى الخدمة وعدم توقيره وإن كان شيخاً، ثم وضح المراد بالإضافة فقال: {المؤمنات} أي لا من الحرائر الكافرات ولا مما ملكتم من الإماء الكافرات ولا مما ملك الكفار حذراً من مخالطة كافرة خوفاً من الفتنة- كما مضى في البقرة، ولئلا يكون الولد المسلم بحكم تبعية أمه في الرق ملكاً لكافر، هذا ما تفهمه العبارة ولكنهم قالوا: إن تقييد المحصنات بالمؤمنات لا مفهوم له، وإلا لصار نكاح الحرة الكتابية المباح بآية المائدة مشروطاً بعقد مسلمة، حرة كانت أو أمة، ولم يشترط ذلك؛ ومذهب الشافعي أنه لا يجوز نكاح الأمة مع القدرة على حرة كتابية، والظاهر أن فائدة التقييد الندب إلى مباعدة الكفار فلا ينكح منهن إلا لضرورة، فكأن هذه سورة المواصلة، أسقط فيها أهل المباعدة، والمائدة سورة تمام الدين، فذكر فيها ما يجوز لأهله فلا ضرر في القيد، لأن المفهوم لا يقوى لمعارضة المنطوق مع ما فيه من فائدة الندب إلى الترك، وهذا كما أن قيد الإحصان هنا للندب إلى عدم نكاح الزواني مع جوازه بآية النور {وانكحوا الأيامى منكم} [النور: 32] كما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى.
ولما شرط في هذا النكاح الإيمان، وعبر فيه بالوصف، وكان أمراً قلبياً، لا يطلع على حقيقته إلا الله؛ أعقبه ببيان أنه يكتفى فيه بالظاهر فقال: {والله} أي الذي له الإحاطة التامة بالمعلومات والمقدورات {أعلم بإيمانكم} فربما ظهر ضعف إيمان أحد والباطن بخلافه، لكن في التعبير به وبالوصف لا بالفعل إرشاد إلى مزيد التحري من جهة الدين «فاظفر بذات الدين، تربت يداك!». ولما اشترط الدين كان كأنه قيل: فالنسب؟ فأشير إلى عدم اشتراطه بقوله: {بعضكم من بعض} أي كلكم من آدم وإن تشعبتم بعده {فانكحوهن} أي بشرط العجز {بإذن أهلهن} أي من مواليهن، ولا يجوز نكاحهن من غير إذنهم.
ولما كان مما لا يخفى أن السيد المالك للرقبة مالك للمنفعة من باب الأولى كان الأمر بدفع المهور إليهن مفيداً لندب السيد إلى جبرها به من غير أن يوهم أنها تملكه وهي لا تملك نفسها، فلذلك قال تعالى: {وآتوهن أجورهن} وهي المهور {بالمعروف} أي من غير ضرار، لا عليكم ولا عليهن ولا على أهلهن، حال كونهن {محصنات} أي عفائف بانفسهن أو بصون الموالي لهن {غير مسافحات} أي مجاهرات بالزنى لمن أراد، لا لشخص معين {ولا متخذات أخدان} أي أخلاء في السر للزنى معينين، لا تعدو ذات الخدن خدنها إلى غيره؛ قال الأصبهاني: وهو- أي الخدن- الذي يكون معك في كل ظاهر وباطن.
ولما لم يتقدم بيان حد الإماء قال مبنياً له: {فإذا أحصن} مبنياً للفاعل في قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم، والمفعول في قراءة الباقين، أي انتقلن من حيز التعريض للزنى بالإكراه إلى حيز الحرائر بأن حفظن فروجهن بكراهتهن للزنى، أو حفظهن الموالي بالرضى لهن بالعفة؛ وقال الشافعي في أوائل الرسالة في آخر الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه والسنة على بعضه: إن معنى {أحصن} هنا: أسلمن، لا نكحن فاصبن بالنكاح، ولا أعتقن وإن لم يصبن، وقال: فإن قال قائل: أراك توقع الإحصان على معان مختلفة؟ قيل: نعم، جماع الإحصان أن يكون دون التحصين مانع من تناول المحرم، فالإسلام مانع، وكذلك الحرية مانعة، وكذلك التزوج والإصابة مانع وكذلك الحبس في البيوت مانع، وكل ما منع أحصن، وقد قال الله عز وجل: {وعلمناه صنعة لبؤس لكم لتحصنكم من بأسكم} [الأنبياء: 80] وقال: {لا يقاتلونكم جميعاً إلى في قرى محصنة} [الحشر: 41] يعني مممنوعة، قال: وآخر الكلام وأوله يدلان على أن معنى الإحصان المذكور عام في موضع دون غيره، إذ الإحصان ها هنا الإسلام دون النكاح والحرية والتحصين بالحبس والعفاف، وهذه الأسماء التي يجمعها اسم الإحصان- انتهى. {فإن أتين بفاحشة} ولا تكون حينئذ إلا عن رضى من غير إكراه.
ولما كان من شأن النكاح تغليظ الحد، فغلظ في الحرائر بالرجم؛ بين تعالى أنه لا تغليظ على الإماء، بل حدهن بعده هو حدهن قبله، فقال {فعليهن نصف ما على المحصنات} أي الحرائر لأنهن في مظنة العفة وإن كن بغير أزواج {من العذاب} أي الحد- كما كان ذلك عذابهن قبل الإحصان، وهذا يفهمه بطريق الأولى، والمراد هنا الجلد، لأن الرجم لا ينتصف.
ولما كان كأنه قيل: هل هذا لكل عاجز عن الحرة؟ استؤنف جواب هذا السؤال بقوله تعالى مشيراً بأداة البعد إلى أنه مما لا يحسن قربه: {ذلك} أي حل نكاح الإماء الذي ينبغي البعد منه {لمن خشي العنت} أي الوقوع في الزنا الموجب للإثم المقتضي للهلاك بالعذاب في الدنيا والآخرة بما عنده من عظيم الداعية إلى النكاح ومشقة الصبر عنه؛ قالوا: وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة وضرر؛ قال الأصبهاني: وقيل: إن الشبق الشديد والغلمة العظيمة قد يؤدي بالإنسان إلى الأمراض الشدية، أما في حق النساء فقد يؤدي إلى اختناق الرحم، وأما في حق الرجال فقد يؤدي إلى أوجاع الوركين والظهر.
ولما كان هذا التخفيف والتيسير خاصاً بالمؤمنين منا قيد بقوله: {منكم}.
ولما بين إباحته وأشار إلى البعد عنه لما فيه من استرقاق الولد صرح بالندب إلى حبس النفس عنه فقال: {وإن تصبروا} أي عن نكاحهن متعففين {خير لكم} أي لئلا تعيروا بهن، أو تسترق أولادكم منهن، ثم أتبع ذلك بتأكيده لذوي البصائر والهمم في سياق دال على رفع الحرج فقال: {والله} أي الذي له الجلال والإكرام {غفور} أي لمن لم يصبر، والمغفرة تشير إلى نوع تقصير {رحيم} أي فاعل به فعل الراحم منكم بالإذن في قضاء وطره واللطف فيما يتبع ذلك من المحذور.


ولما أتم سبحانه الحلال والحرام من هذه الحدود والأحكام، وختمها بصفة الرحمة بين ما أراد بها من موجبات الرحمة تذكيراً بالنعمة لتشكر، وتحذيراً من أن تنسى فتكفر فقال تعالى: {يريد الله} أي الملك الأعظم إنزال هذه الأحكام على هذا النظام {ليبين لكم} أي ليوقع لكم البيان الشافي فيما لكم وعليكم من شرائع الدين {ويهديكم} أي يعرفكم {سنن} أي طرق {الذين} ولما كان المراد بعض الماضين قال: {من قبلكم} أي من أهل الكتاب: الأنبياء وأتباعهم {ويتوب عليكم} أي يرجع بكم عن كل ما لا يرضيه، لا سيما ما يجر إلى المقاطعة- مثل منع النساء والأطفال الإرث، ومثل نكاح ما يحرم نكاحه وغير ذلك، فأعلمهم بهذا أنهم لم يخصهم بهذه التكاليف، بل يسلك بهم فيها صراط الذين أنعم عليهم ليكون ذلك أدعى لهم إلى القبول وأعون على الامتثال، وليتحققوا أن إلقاء أهل الكتاب الشبه إليهم وتذكيرهم بالأضغان لإرادة إلقاء العداوة محض حسد لمشاركتهم لهم في مننهم إذ هدوا لسننهم، وما أحسن ختم ذلك بقوله: {والله} أي المحيط بأوصاف الكمال {عليم حكيم} فلا يشرع لكم شيئاً إلا وهو في غاية الإحكام. فاعملوا به يوصلكم إلى دار السلام.
بيان ذلك أن ما في هذه السورة الأمر بالتقوى والحث عليها، وبيان الفرائض وأمر الزناة، وما يحل ويحرم من النساء، والتحري في الأموال، والإحسان إلى الناس، لا سيما الأيتام والوالدين، والإذعان للأحكام، وتحريم القتل، والأمر بالعدل في الشهادة وغيرها، وكل ذلك مبين أصوله في التوراة كما هو مبثوث في هذا الديوان عن نصوصها في المواضع اللائقة به، لكن القرآن أحسن بياناً وأبلغ تبياناً وأبدع شأناً وألطف عبارة وأدق إشارة، وأعجب ذلك أن سبب إنزال فرائض الميراث في شريعتنا النساء، ففي الصحيحين وغيرهما عن جابر رضي الله عنه قال: «مرضت فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاني وقد أغمي عليّ» وفي رواية البخاري في التفسير: «عادني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ فصب عليّ وضوءه فأفقت، فقلت: يا رسول الله! كيف أصنع في مالي؟» وفي رواية لمسلم: «إنما يرثني كلالة فلم يجبني بشيء» وفي رواية الترمذي: «وكانت لي تسع أخوات حتى نزلت آية الميراث» وفي رواية للبخاري: «فنزلت» وفي رواية للترمذي: «حتى نزلت {يوصيكم الله في أولادكم}» وفي رواية للترمذي: حتى نزلت آية الميراث {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} الآية، وقال: حديث صحيح. ولأبي داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «جاءت امرأة سعد بن ربيع بابنتيها من سعد رضي الله عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً، ولا تنكحان إلا ولهما مال، قال: يقضي الله عز وجل في ذلك، فنزلت آية الميراث» وفي رواية أبي داود: ونزلت الآية في سورة النساء: {يوصيكم الله في أولادكم} وفي رواية الدارقطني: فنزلت سورة النساء، وفيها {يوصيكم الله في أولادكم} إلى آخر الآية- فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: «أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك» وفي رواية للدارقطني: إن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله! إن سعداً هلك وترك ابنتين وأخاه فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد، وإنما تنكح النساء على أموالهن، فلم يجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه ذلك، ثم جاءته فقالت: يا رسول الله! ابنتا سعد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادعي لي أخاه! فجاء فقال: ادفع إلى ابنتيه الثلثين، وإلى امرأته الثمن، ولك ما بقي» وقال شيخنا حافظ عصره أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر في الإصابة في أسماء الصحابة: روى أبو الشيخ في تفسيره من طريق عبد الله بن الأجلح الكندي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الأولاد الصغار حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن ثابت، وترك بنتين وابناً صغيراً، فجاء ابنا عمه خالد وعرفطة فأخذا ميراثه، فقالت امرأته للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فأنزل الله تعالى: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} [النساء: 7] فأرسل إلى خالد وعرفطة فقال: «لا تحركا من الميراث شيئاً» ورواه أبو الشيخ من وجه آخر فقال: قتادة وعرفطة ورواه الثعلبي في تفسيره فقال: سويد وعرفطة، ووقع عنده أنهما أخوا أوس: ورواه مقاتل في تفسيره لفقال: إن أوس بن مالك توفي يوم أحد وترك امرأته أم كجة وبنتين فذكر القصة، وذكر شيخنا في تخريج أحاديث الكشاف أن الثعلبي والبغوي ساقا بلا سند أن أوس بن الصامت الأنصاري ترك امرأته أم كجة وثلاث بنات، فزوى ابنا عمه سويد وعرفطه أو قتادة وعرفجة ميراثه عنهن، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الأطفال ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح، وذاد عن الحوزة، وحاز الغنيمة، فجاءت أم كجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيخ، فشكت إليه، فقال: ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله، فنزلت: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} [النساء: 7] فبعث إليهما: «لا تفرقا من مال أوس شيئاً، فإن الله قد جعل لهن نصيباً» ولم يبين حتى نزلت {يوصيكم الله في أولادكم} الآية، فأعطى أم كجة الثمن والبنات الثلثين والباقي لابني العم، ورواه الطبري من طريق ابن جريج عن عكرمة على غير هذا السياق، ولفظه: نزلت في أم كجة وابنة أم كجة وثعلبة وأوس بن سويد، وهم من الأنصار، كان أحدهما زوجها والآخر عم ولدها، فقالت: يا رسول الله! توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث، فقال عم ولدها: إن ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلاًّ ولا ينكأ عدواً، فنزلت {للرجال نصيب} [النساء: 7]، وروي من طريق السدي، قال في قوله: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان، ولا يورثون إلا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وترك امرأة يقال لها أم كجة، وترك خمس أخوات، فجاءت الورثة فأخذوا ماله، فشكت أم كجة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} [النساء: 11] ثم قال في أم كجة {ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد} [النساء: 12].
فجميع هذه الروايات- كما ترى- ناطقة بأن سبب نزول آيات الميراث النساء، ويمكن أن يكون المجموع سبباً- والله أعلم؛ وذلك كما أن سبب إنزال الفرائض في التوراة كان النساء أيضاً، وذلك أنه جل أمره وعز اسمه وتعالى جده لما أمات من نكص عن أمره من بني إسرائيل ومن آلافهم في التيه وأخرج أبناءهم منه؛ أمر موسى عليه الصلاة والسلام بقسمة أرض الكنعانيين بين بنيهم بعد معرفة عددهم على منهاج ذكره، ولم يذكر البنات، وكان فيهم بنات لا أب لهن فسألن ميراث أبيهن، فأنزل الله حكمهن؛ قال في السفر الرابع من التوراة ما نصه: ولما كان بعد الموت الفاشي قال الرب لموسى ولليعازر بن هارون الحبر: احفظا عدد جماعة بني إسرائيل من ابن عشرين سنة إلى فوق، كل من خرج للمحاربة من بين بني إسرائيل فكلما الجماعة في عربات مؤاب التي عند أردن أريحا، وأخبراهم بقول الرب، ثم أحصياهم، فكان عددهم ستمائة ألف وسبعمائة وثلاثين رجلاً غير اللاويين سبط موسى فإنهم كانوا لحفظ قبة الزمان وخدمتها، وكانوا ثلاث قبائل: أحدهم فغث فولد له عمران، وكان اسم امرأة عمران حنة ابنة لوى، ولدت له بأرض مصر هارون وموسى ومريم، وكان عددهم في هذا الوقت ثلاثة وعشرين ألفاً، كل ذكر منهم ابن شهر فما فوق، ولم يكن في هؤلاء ممن أحصاه موسى وهارون حيث عدا بني إسرائيل في برية سيناء، لأن الرب قال لهم: يقتلون في هذه المفازة، ولا يبقى منهم رجل ما خلا كلاب بن يوفنا ويوشع بن نون، ودنا بنات صلفحد من قبيلة منشى بن يوسف وقلن: أبونا توفي في البرية ولم يخلف ابناً، أعطنا ميراثنا، فرفع موسى أمرهن إلى الرب فقال الرب لموسى: الحق قلن أعطهن ميراثاً مع أعمامهن ليتبين ميراث أبيهن وقلن لبني إسرائيل: أي رجل مات ولم يخلف ابناً يعطى ميراثه ابنته وإن لم يكن له ابنة يعطى ميراثه إخوته ومن لم يكن له إخوة يعطى ميراثه أعمامه ومن لم يكن له أعمام يعطى ميراثه لمن كان قرابته من أهل عشيرته، وتكون هذه سنة لبني إسرائيل في أحكامهم كما أمر الرب موسى؛ وقال في السفر الثالث منها ما نصه سنة الخطايا التي إذا ارتكبها إنسان عوقب بالموت: وكلم الرب موسى وقال له: كلم بني إسرائيل، وقل لهم: أنا الله ربكم! لا تعملوا مثل أعمالكم أهل مصر التي سكنتموها، ولا تعملوا مثل أعمال أهل كنعان التي أدخلكم إليها ولا تسيروا سنتهم ولكن اعملوا بأحكامي، واحفظوا وصاياي، وسيروا بها، أنا الله ربكم! احفظوا شرائعي وأحكامي.
لأن الذي يعمل بها يعيش، أنا الرب وليس إله غيري! ولا يجسرن الرجل منكم أنيكشف عورة قرابته، أنا الرب وليس إله غيري! ولا تكشفن عورة أبيك ولا عورة أمك، لأنها أمك، ولا تفضح امرأة ابنك ولا تكشف عورتها، لان عورتها عورة ابنك، ولا تفضح أختك من أبيك ومن أمك التي ولدت من أبيك، أو أختك من أمك لا من أبيك، لا تكشف عورتها، لأن فضيحتها فضيحتك، ولا تكشف عورة بنت امرأة أبيك التي ولدت من أبيك، لأنها أختك، ولا تكشف عورة عمتك لإنها أخت أبيك ولا تكشف عورة خالتك لأنها أخت أمك ولا تكشف عورة امرأة عمك ولا تدن من امرأته، لأنها امرأة عمك، ولا تكشف عورة كنتك، لأنها امرأة ابنك، ولا تكشف عورة امرأة أخيك، لأن فضيحتها فضيحة أخيك، ولا تكشف عورة امرأة وبنتها، أي لا تتزوج بهما، ولا تكشف عورة بنت الابن ولا بنت البنت، لأن فضيحتهما فضيحتك، ولا تكشف عورتهما، هن قرابتك وارتكابهن إثم، ولا تتزوج أخت امرأتك في حياتها فتحزنها، ولا تكشف عورتهما جميعاً في حياة امرأتك، والمرأة إذا حاضت وطمثت لا تدن لتكشف عورتها، ولا تسفح بامرأة صاحبك ولا تنجس، ولا تنجس اسم إلهك، أنا الله ربكم! لا تضاجعن الذكر، ولا ترتكب من الذكر ما ترتكب من المرأة، لأنه فعل نجس، ولا بهيمة، ولا تلق زرعك فيها فتنجس بها، والمرأة أيضاً لا تقوم بين يدي بهيمة تطأها، لأنه فعل نجس، لا تنجسوا منها بشيء، فبهذه كلها تنجست الشعوب التي أهلكتها من بين أيديكم وتنجست أرضهم بفعلهم وعاقبتها بإثمها وتعطلت الأرض من سكانها لحال خطاياهم؛ احفظوا عهودي وأحكامي ولا ترتكبوا شيئاً من هذه الخطايا لأن أهل البلاد التي ترثونها فعلوا هذه الأفاعيل كلها وتنجست الأرض بهم، ولا تنجسوا الأرض لئلا تعطل منكم كما تعطلت من الشعوب التي كانوا يها قبلكم، لأن كل من يفعل هذه الخطايا يهلك؛ احفظوا شرائعي ولا ترتكبوا شيئاً من سير الخطايا التي فعلها من كان قبلكم، ولا تنجسوا بها، أنا الله ربكم!.
ثم كلم الرب موسى وقال له: كلم جميع بني إسرائيل وقل لهم: تقدسوا، لأني قدوس، أنا الله ربكم! يهاب كل امرئ منكم والديه ويكرمهما، واحفظوا وصاياي، لأني أنا الله ربكم! لا تقبلوا إلى الشيطان ولا تتخذوا آلهة مسبوكة، أنا الله ربكم وقال في السفر الثاني: ولا تصدقن الخبر الكاذب، لا توالِ الخبيث لتكون له شاهد زور، ولا تتبعن هوى الكبير فتنسى، ولا تشايعن الكبراء الذين يحيفون في القضاء فتحيف معهم، ولا تعن المسكين على الظلم، لا تحيفن في فضاء المسكين وتباعد عن القول الكاذب. وقال في السفر الخامس: ودعا موسى بجميع بني إسرائيل وقال لهم: اسمعوا يا بني إسرائيل السنن والأحكام التي أتلوا عليكم لتعلموها وتحفظوها وتعملوا بها، وتعلمون أن الله ربنا عاهدنا عهداً بأرض حوريب، ولم يعاهد الله آباءنا بهذا العهد، بل إنما عاهدنا، نحن الذين ها هنا أحياناً سالمين، وجهاً قبل وجه كلمنا الرب في النار عن الجبل، فأنا كنت قائماً بين يدي الرب وبينكم لأظهر لكم ذلك الزمان أقول الله ربكم، حيث فرقتم من النار ولم تصعدوا إلى الجبل، وقال الرب: أنا الله ربكم الذي أخرجتكم من أرض مصر وخلصتكم من العبودية! لا يكون لكم إله غيري، ولا تتخذوا أصناماً ولا أشباهاً، ولا تقسم باسم ربك كذباً، لأن الربّ لا يزكي من يحلف باسمه كذباً، احفظوا يوم السبت وطهروه- إلى أن قال؛ لا تعملوا فيه عملاً ليستريح عبيدكم وإماؤكم معكم، واذكروا أنكم كنتم عبيداً بأرض مصر فأخرجكم الله ربكم من هناك بيد منيعة وذراع عظيمة، لذلك أمركم ربكم أن تحفظوا يوم السبت، فيكرم كل امرئ منكم والديه كما أمركم الله ربكم لتطول أعماركم، وينعم عليكم في الأرض التي يعطيكم، لا تقتلوا، لا تزنوا، لا تسرقوا، لا يشتهين الرجل منكم امرأة صاحبه- إلى أن قال: ولا شيئاً مما لصاحبك- هذه الآيات التي أمر بها الرب بني إسرائيل، وكلمهم بها في الجبل من النار بالسحاب والضباب بصوت عظيم لا يوصف ولا يحد، وهي التي كتبها على لوحي الحجارة ودفعها إلى موسى النبي- فما سمعتم صوتاً من الظلمة ورأيتم ناراً تشتعل في الجبل تقدم إليّ رؤساؤكم، وقالوا: قد أرانا الله ربنا مجده وكرامته وعظمته، اليوم رأينا أن كلم الله الناس وعاشوا، إن عدنا نسمع صوت الله ربنا متنا، تقدم أنت واسمع ما يقول الله ربنا وقص علينا فسمع الرب صوت كلامكم حين كلمتموني وقال لي الرب: قد سمعت صوت الشعب وما قالوا لك، نعم ما تكلموا به ويا ليت تكون لهم قلوب هكذا، فتكون تسمع وتطيع وتتقوى، ويفزعون من قولي، ويحفظون جميع وصاياي، كلها احفظوا، واعملوا بما أمركم الله ربكم ولا تحيدوا يمنة ولا يسرة، بل سيروا في كل الطريق الذي أمركم ربكم لتعيشوا، وينعم عليكم، وتطول مدتكم في الأرض التي ترثون- هذه السنن والوصايا والأحكام التي أمرني الله ربكم أن أعلمكم لتعلموا وتتقوا الله ربكم أنتم وبنوكم كل أيام حياتكم فتطول أعماركم، اسمعوا يا بني إسرائيل! الله ربنا واحد، أحبوا الله ربكم في كل قلوبكم، ولتكن هذه الآيات التي أمركم في قلوبكم أبداً، وعلموها بنيكم، وتكلموا بها إذا حضرتم في منازلكم، وإذا سافرتم، وإذا رقدتم، وإذا قمتم، وشدوها علامة على أيديكم، ويكون ميسماً بين أعينكم، واكتبوها على قوائم بيوتكم وعلى أبوابكم، ولا تنسوا الله ربكم، وإياه فاعبدوا وباسمه فأقسموا، ولا تتبعوا الآلهة الأخرى التي تعبدها الشعوب التي حولكم، لأن الله ربكم الحالّ فيكم هو إله غيور فاتقوه، لا يشتد غضبه عليكم، ويهلككم عن حديد الأرض، ولا تجربوا الله ربكم كما جربتموه بالبلايا، ولكن احفظوا وصية الله ربكم وشهادته وسنته التي أمركم بها، فاعملوا الحسنات، وأنصفوا واعدلوا لينعم عليكم، وتدخلوا وترثوا الأرض المخصبة التي أقسم الله لآبائكم، ويكسر جميع أعدائكم ويهزمهم قدامكم كما قال الرب، فإذا سألكم بنوكم غداً وقالوا: ما الشهادة والسنة والحكومة التي أمركم الله بها؟ قولوا لبنيكم: إنا كنا عبيداً لفرعون بأرض مصر، وأخرجنا الرب من أرض مصر بيد منيعة، وأنزل بأهل مصر بلاء شديداً، وفعل ذلك بفرعون وجميع أهل بيته تجاهنا، وأخرجنا الرب من هناك ليدخلنا ويعطينا الأرض التي أقسم لآبائنا، وأمرنا الرب أن نعمل هذه السنن كلها، وأن نتقي الله ربنا لينعم كل أيامنا، ويحيينا بالخير والنعم، ويكون ربنا بنا براً إذا حفظنا هذه الوصية كلها، وعلمناها أمام الله ربنا كما أمرنا.
وقال في السفر الخامس: ولا تكف يدك عن العطاء والصدقة على أخيك المسكين، ولكن يصدق بعضكم على بعض، ويعطي بعضكم بعضاً، ولا يضيق قلبك، ولا تحزن إذا صدقت على أخيك، لأنك إذا فعلت هذا القول وأوسعت على أخيك يبارك الله لك في جميع أعمالك، وفي كل ما تمد يدك إليه، من أجل أن الأرض لا تعدم المساكين، فلذلك آمرك- والعزم إليك- أن تمد يدك إلى أخيك المسكين، وتصدق على الفقير في الأرض. وقال فيه: أنصفوا بين إخوتكم وأحكموا بالحق ولا تحيفوا في القضاء، واسمعوا من الصغير كما تسمعون من الكبير، ولا تهابوا الرجل ولو عظم شأنه وكثرت أمواله، لأن القضاء لله.
وقال فيه: صيروا لكم قضاة وكتاباً في جميع قراكم، وتقضون للشعب قضاء العدل والبر، ولا تحيفن في القضاء، ولا تحابوا ولا ترتشوا، لأن الرشوة تعمي أعين الحكام في القضاء، ولكن أقضي بالحق لتعيشوا وتبقوا وترثوا الأرض التي يعطيكم الله ربكم- فقد علم من هذا أصول غالب ما ذكره تعالى في هذه السورة مع ما تقدم من أشكاله في البقرة عند قوله تعالى: {وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله} [البقرة: 83] وغيرها من الآيات، وفي آل عمران أيضاً، وأما حد الزاني وأمر القتل والجراح فسيذكر إن شاء الله تعالى في المائدة.


ولما قرر سبحانه وتعالى إرادته لصلاحهم ورغب في اتباع الهدى بعلمه وحكمته عطف على ذلك قوله: {والله} بلطف منه وعظم سلطانه {يريد} إي بإنزاله هذا الكتاب العظيم وإرساله هذا الرسول الكريم {أن يتوب عليكم} أي يرجع لكم بالبيان الشافي عما كنتم عليه من طرق الضلال لما كنتم فيه من العمى بالجهل، وزادهم في ذلك رغبة بقوله: {ويريد الذين يتبعون} أي على سبيل المبالغة والاستمرار {الشهوات} أي من أهل الكتابين وغيرهم كشاش بن قيس وغيره من الأعداء {أن تميلوا} أي عن سبيل الرشاد {ميلاً عظيماً} أي إلى أن تصيروا إلى ما كنتم فيه من الشرك والضلال، فقد أبلغ سبحانه في الحمل على الهدى بموافقة الولي المنعم الجليل الذي لا تلحقه شائبة نقص، ومخالفة العدو الحسود الجاهل النازل من أوج العقل إلى حضيض طباع البهائم.
ولما كان الميل متعباً لمرتكبه أخبرهم أن علة بيانه للهداية وإرادته التوبة الرفق بهم فقال: {يريد الله} أي وهو الذي له الجلال والجمال وجميع العظمة والكمال {أن يخفف عنكم} أي يفعل في هذا البيان وهذه الأحكام فعل من يريد ذلك، فيضع عنكم الآصار التي كانت على من كان قبلكم الحاملة على الميل، ويرخص لكم في بعض الأشياء كنكاح الأمة- على ما تقدم، ودل على علة ذلك بالواو العاطفة؛ لأنكم خلقتم ضعفاء يشق عليكم الثقل {وخلق الإنسان} أي الذي أنتم بعضه {ضعيفاً} مبناه الحاجة، فهو لا يصبر عن النكاح ولا غيره من الشهوات، ولا يقوى على فعل شيء إلا بتأييد منه سبحانه.
ولما كان غالب ما مضى مبنياً على الأموال تارة بالإرث، وتارة بالجعل في النكاح، حلالاً أو حراماً؛ قال تعالى- إنتاجاً مما مضى بعد أن بين الحق من الباطل وبين ضعف هذا النوع كله، فبطل تعليلهم لمنع النساء والصغار من الإرث بالضعف، وبعد أن بين كيفية الترصف في أمر النكاح بالأموال وغيرها حفظاً للأنساب، ذاكراً كيفية التصرف في الأموال، تطهيراً للإنسان، مخاطباً لأدنى الأسنان في الإيمان، ترفيعاً لغيرهم عن مثل هذا الشأن: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان والتزام الأحكام.
ولما كان الأكل أعظم المقاصد بالمال، وكان العرب يرون التهافت على الأكل أعظم العار وإن كان حلالاً؛ كنى به التناول فقال: {لا تأكلوا} أي تتناولو {أموالكم} أي الأموال التي جعلها الله قياماً للناس {بينكم بالباطل} أي من التسبب فيها بأخذ نصيب النساء والصغار من الإرث، وبعضل بعض النساء وغير ذلك مما تقدم النهي عنه وغيره.
ولما نهى عن الأكل بالباطل، استدرك ما ليس كذلك فقال: {إلا أن تكون} أي المعاملة المدارة المتداولة بينكم {تجارة} هذا في قراءة الكوفيين بالنصب، وعلى قراءة غيرهم: إلا أن توجد تجارة كائنة {عن تراض منكم} أي غير منهي عنه من الشارع، ولعل الإتيان بأداة الاستثناء المتصل- والمعنى على المنقطع- للإشارة إلى أن تصرفات الدنيا كلها جديرة بأن يجري عليها اسم الباطل ولو لم يكن إلا معنياً بها تزهيداً فيها وصدّاً عن الاستكثار منها، وترغيباً فيما يدوم نفعه ببقائه، وهكذا كل استثناء منقطع في القرآن، من تأمله حق التأمل وجد للعدول عن الحرف الموضوع له وهو لكن إلى صورة الاستثناء حكمة بالغة والله الموفق.
ولما كان المال عديل الروح ونهى عن إتلافه بالباطل، نهى عن إتلاف النفس، لكون أكثر إتلافهم لها بالغارات لنهب الأموال وما كان بسببها وتسبيبها على أن من أكل ماله ثارت نفسه فأدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل، فكان النهي عن ذلك أنسب شيء لما بنيت عليه السورة من التعاطف والتواصل فقال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} أي حقيقة بأن يباشر الإنسان قتل نفسه، أو مجازاً بأن يقتل بعضكم بعضاً، فإن الأنفس واحدة، وذلك أيضاً يؤدي إلى قتل نفس القاتل، فلا تغفلوا عن حظ أنفسكم من الشكر فمن غفل عن حظها فكأنما مثلها، ثم علله بما يلين أقسى الناس فقال: {إن الله} أي مع ما له من صفات العظمة التي لا تدانيها عظمة {كان بكم} أي خاصة حيث خفف عليكم ما شدده على من كان قبلكم {رحيماً} أي بليغ الرحمة حيث يسر لكم الطاعة ووفقكم لها فأبلغ سبحانه الترغيب في الامتثال؛ ثم قال ترهيباً من مواقعة الضلال: {ومن يفعل ذلك} أي المنهي عنه من القتل وغيره العظيم الإبعاد عن حضرات الإله {عدواناً وظلماً} أي بغير حق، وعطفه للوصف بالواو يدل على تناهي كل منهما، هذا مع ما أفهمه صفة الفعلان من المبالغة، فكان المراد العدو الشديد المفرط المتجاوز للحدود الناشيء عن العهد وتناهي الظلم الذي لا شائبة فيه للحق {فسوف نصليه ناراً} أي ندخله إياها بوعيد لا خلف فيه وإن طال إمهاله {وكان ذلك} أي الأمر العظيم الذي توعد به {على الله} أي الذي له الجلال والجمال {يسيراً} أي لأنه لا ينقصه من مكله شيئاً، ولا يمنع منه مانع.
ولما بين تعالى ما لفاعل ذلك تحذيراً، وكان قد تقدم جملة من الكبائر، أتبعه ما للمنتهي تبشيراً جواباً لمن كأنه قال: هذا للفاعل فما للمجتنب؟ فقال على وجه عام: {إن تجتنبوا} أي تجهدوا أنفسكم بالقصد الصالح في أن تتركوا تركاً عظيماً وتباعدوا {كبائر ما تنهون عنه} أي من أكل المال والقتل بالباطل والزنى وغير ذلك مما تقدم روى البزار- قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح- عن عبد الله- يعني ابن مسعود- أنه سئل عن الكبائر فقال: ما بين أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين قال الأصبهاني: وكل ذنب عظم الشرع الوعيد عليه بالعذاب وشدده، أو عظم ضرره في الخمس الضرورية: حفظ الدين والنفس والنسب والعقل والمال، فهو كبيرة، وما عداه صغيرة {نكفر عنكم سيئاتكم} أي التي هي دون الكبائر كلها، فإن ارتكبتم شيئاً من الكبائر وأتيتم بالمكفرات من الصلوات الخمس والجمعة وصوم رمضان والحج، أو فرطتم في شيء منها فمنَّ الله عليكم بأن أتاكم بالمرض؛ كفر ذلك المأتي به الصغائر، ولم يقاوم تلك الكبيرة فلم يكفر جميع السيئات، لعدم إتيانه على تلك الكبيرة {وندخلكم مدخلاً كريماً} أي يجمع الشرف والعمل والجود وكل معنى حسن، ومن فاته جميع ذلك لم يكفر عنه سيئاته، ولم يدخله هذا المدخل، ويكفي في انتفائه حصول القصاص في وقت ما؛ وقال الإمام أحمد: المسلمون كلهم في الجنة- لهذه الآية وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» فالله تعالى يغفر ما دون الكبائر، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في الكبائر، فأي ذنب على المسلمين! ذكره عنه الأصبهاني، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما عن أنس رضي الله عنه.
ولما نهى عن القتل وعن الأكل بالباطل بالفعل وهما من أعمال الجوارح، ليصير الظاهر طاهراً عن المعاصي الوخيمة؛ نهى عن التمني الذي هو مقدمة الأكل، ليكون نهياً عن الأكل بطريق الأولى، فإن التمني قد يكون حسداً، وهو المنهي عنه هنا كما هو ظاهر الآية: وهو حرام والرضى بالحرام، والتمني على هذا الوجه يجر إلى الأكل والأكل يعود إلى القتل، فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، والنهي هنا للتحريم عند أكثر العلماء فقال: {ولا تتمنوا} أي تتابعوا أنفسكم في ذلك {ما فضل الله} أي الذي له العظمة كلها، فلا ينقصه شيء {به} اي من المال وغيره {بعضكم عن بعض} أي في الإرث وغيره من جميع الفضائل النفسانية المتعلقة بالقوة النظرية كالذكاء التام والحدس الكامل وزيادة المعارف بالكمية والكيفية، أو بالقوة العملية كالعفة التي هي وسط بين الجمود والفجور، والشجاعة التي هي وسط بين التهور والجبن، والسخاء الذي هو وسط بين الإسراف والبخل، وكاستعمال هذه القوى على الوجه الذي ينبغي وهو العدالة، أو الفضائل البدنية كالصحة والجمال والعمر الطويل مع اللذة والبهجة، أو الفضائل الخارجية مثل كثرة الأولاد الصلحاء، وكثرة العشائر والأصدقاء والأعوان، والرئاسة التامة ونفاذ القول، وكونه محبوباً للناس حسن الذكر فيهم؛ فهذه مجامع السعادات وبعضها نظرية لا مدخل للكسب فيها، وبعضها كسبية، ومتى تأمل العاقل في ذلك وجده محض عطاء من الله، فمن شاهد غيره أرفع منه في شيء من هذه الأحوال تألم قلبه وكانت له حالتان: إحداهما أن يتمنى حصول مثل تلك السعادة له، والأخرى أن يتمنى زوالها عن صاحبها وهذا هو الحسد المذموم، لأنه كالاعتراض على الله الذي قسم هذه القسمة، فإن اعتقد أنه أحق منه فقد فتح على نفسه باب الكفر، واستجلب ظلمات البدعة، ومحا نور الإيمان، فإن الله فعال لما يريد، لا يسأل عما يفعل فلا اعتراض عليه، وكما أن الحسد سبب الفساد في الدين فهو سبب الفساد في الدنيا؛ فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له علماً بأن ذلك مصلحة، ولو كان غير ذلك فسد، فإن ذلك كله قسمة من الله صادرة عن حكمه وتدبيره وعلمه بأحوال العباد فيما يصلحهم ويفسدهم.
وأما تمني المثل فإن كان دينياً كان حسناً، كما قال صلى الله عليه وسلم «لا حسد إلا في اثنتين» وإن كان دنيوياً فمن الناس من جوز ذلك، ومنهم من قال- وهم المحققون: لا يجوز ذلك، لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ومضرة في الدنيا كقصة قارون- قال معنى ذلك الإمام الرازي.
ولما نهى سبحانه عن ذلك علله بما ينبه على السعي في الاسترزاق والإجمال في الطلب، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن شداد بن أوس رضي الله عنه «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله» وكما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» فقال مشيراً إلى أنه لا ينال أحد جميع ما يؤمل: {للرجال نصيب} أي قد فرغ من تقديره فهو بحيث لا يزيد ولا ينقص، وبين سبحانه أنه ينبغي الطلب والعمل، كما أشار إليه الحديث فقال: {مما اكتسبوا} أي كلفوا أنفسهم وأتعبوها في كسبه من أمور الدارين من الثواب وأسبابه من الطاعات ومن الميراث والسعي في المكاسب والأرباح «جعل رزقي تحت ظل رمحي» «لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً» {وللنساء نصيب مما اكتسبن} أي وكذلك فالتمني حينئذ غير نافع، فالاشتغال به مجرد عناء.
ولما أشار بالتبعيض إلى أن الحصول بتقديره، لا بالكسب الذي جعله سبباً، فإنه تارة ينجحه وتارة يخيبه، فكان التقدير: فاكتسبوا ولا تعجزوا فتطلبوا بالتمني؛ أمر بالإقبال- في الغنى وكل شيء- عليه إشارة إلى تحريك السبب مع الإجمال في الطلب فقال: {وسئلوا الله} أي الذي له جميع صفات الكمال.
ولما كان سبحانه تعالى عظمته لا ينقصه شيء وإن جل قال: {من فضله} أي من خزائنه التي لا تنفد ولا يقضيها شيء، وفي ذلك تنبيه على عدم التعيين، لأنه ربما كان سبب الفساد، بل يكون الطلب لما هو له صلاح، وأحسن الدعاء المأثور، وأحسنه {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة: 201] ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الملك الأعظم الذي بيده مقاليد كل شيء {كان بكل شيء عليماً} أي فكان على كل شيء قديراً، فإن كمال العلم يستلزم شمول القدرة- كما سيبين إن شاء الله تعالى في سورة طه، والمعنى أنه قد فعل بعلمه ما يصلحكم فاسألوه بعلمه وقدرته ما ينفعكم، فإنه يعلم ما يصلح كل عبد وما يفسده. وعطف على ذلك ما هو من جملة لعلة فقال: {ولكل} أي من القبيلتين صغاراً كانوا أو كباراً {جعلنا} بعظمتنا التي لا تضاهى {موالي} أي حكمنا بأنهم هم الأولياء، أي الأنصار، والأقرباء لأجل الإرث، هم الذين يلون المال ويرثونه، سواء كانوا عصبة خاصة وهم الوراث، أو عصبة عامة وهم المسلمون.
ولما كان الاهتمام بتوريث الصغار أكثر قال: {مما} أي من أجل ما {ترك} أي خلفه {الوالدان} أي لكم، ثم أتبع ذلك ما يشمل حقي الأصل والفرع فقال: {والأقربون} أي إليكم، ثم عطف على ذلك قوله: {والذين} أي وما ترك الذين {عقدت أيمانكم} أي مما تركه من تدلون إليه بنسب أو سبب بالحلف أو الولاء أو الصهر، وذكر اليمين لأن العهد يكون مع المصافحة بها، ثم سبب عن ذلك قوله: {فآتوهم} أي الموالي وإن كانوا صغاراً أو إناثاً على ما بينت لكم في آية المواريث السابقة، واتركوا كل ما خالف ذلك فقد نسخ بها {نصيبهم} أي الذي فرضناه لهم من الإرث موافراً غير منقوص، ولا تظنوا أن غيرهم أولى منهم أو مساوٍ لهم، ثم رهب من المخالفة، وأكد الأمر وعداً ووعيداً بقوله: {إن الله} أي المحيط بصفات الكمال {كان على كل شيء شهيداً} أي فهو يعلم الولي من غيره والخائن من غيره وإن اجتهد في الإخفاء، لأنه لا يخفى عليه شيء، لأنه لا يغيب شيء ولا يغيب عنه شيء، فالمعنى: إنا لم نفعل سوى ما قصدتم من إعطاء المال لمن يحمي الذمار ويذب عن الحوزة، وأنتم كنتم غير منزليه حق منازله لغيبتكم عن حقائق الأمور وغيبتها عنكم، فإنا لم نخرج شيئاً منه لغير الموالي- أي الأنصار- إما بالقرابة أو بالمعاقدة بالولاء أو المصاهرة، فالحاصل أنه لمن يحمي بالفعل، أو بالقوة القريبة منه، أو البعيدة الآئلة إلى القرب، وأما التفضيل في الأنصباء فأمر استأثرنا بعلم مستحقيه، وفي البخاري في التفسير عن ابن عباس: موالي: ورثة والذين عاقدت أيمانكم كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجرين الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت {ولكل جعلنا موالي} نسخت، ثم قال: {والذي عاقدت أيمانكم} من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث، ويوصي له.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8